اللواء مهندس صلاح عمران أحد رجال القوات المسلحة الذين أبلوا بلاءً حسناً منذ تخرجه في الكلية الفنية العسكرية عام 1969 وذهب إلى الجبهة بعد تخرجه ليشترك في حرب الاستنزاف، بعدها ذهب إلى منطقة تتعرض دوما لإبرار وهجوم من العدو الإسرائيلي الغاشم وكانت منطقة صعبة.. المواصلات والمعيشة.. ونظرا للمخاطر التي يتعرض لها المقاتل المصري في هذه المنطقة فقد سمح اللواء سعد الدين الشاذلي قائد منطقة البحر الأحمر العسكرية، في ذلك الوقت، بعدم تحرك الأتوبيسات الثلاث التي كانت تقل الجنود للأجازات ليلاً، وسمح للجنود والضباط بالنزول بالتسليح وتسليمه في وحدة عسكرية بمنطقة الكريمات، ومكث الرائد صلاح عمران بضعة أشهر في هذه المنطقة، وساقته الصدفة والظروف للانتقال إلى الجبهة والمشاركة في ملحمة العبور العظيم، وحدث أن ذهب لأخذ فرقة قادة سرايا فتجاذب الحديث مع أحد زملائه وهو الرائد زكريا عبد المنعم، وكان مشهوراً عنه الحرص الشديد ولا ينفق كثيراً، وقد حدثه صلاح مازحاً بأن منطقة البحر الأحمر بها مزايا عديدة في المأوى والسكن والأكل وزيادة الراتب، فتوسل إليه أن يبدل مكانه معه ورضخ الرائد صلاح عمران لطلبه، وفي هذا يقول في حواري الذي أجريته معه ومنه استقينا مادة هذا المقال: "وأقول أن الرائد زكريا عبد المنعم من قمت بالبدل معه قدم لي أكبر خدمة في حياتي، لأنه وهبني شرف الاشتراك في حرب أكتوبر 1973 بحلوها ومرها، وجعلنى أترك لنفسي وأولادي وأحفادي ما يفخرون به ويكفيني تهنئتهم لي كل عام في ذكرى معركة العبور يوم ٦ أكتوبر (كل سنة وأنت طيب يا بطل)، وأضحك في نفسي..(بطل بطل ..خليكم على عماكم)، لأني لم أشعر أني قدمت شيئاً زائداً لهذا البلد.. بل كل ما فعلته أنني حاولت القيام بواجبى.. فوالله لو كان لي ألف روح وقدمتها لهذا البلد ما وفيتها حقها، والله ثانية عندما كنت أسمع أنشودة الموسيقار محمد عبد الوهاب من كلمات الشاعر العظيم محمود حسن إسماعيل: "مصر نادتنا فلبينا نداها وتسابقنا صفوفا في هواها/ فإذا عاد على أرض رماها ترقص الأرواح والدنيا فداها"، فوالله تكاد الدموع أن تذرف من عيني حباً لهذه البلد.. هل تعلم لماذا؟ لأنه كان هناك القدوة وأكرر كان هناك القدوة.. وأكرر وأكرر للمرة الألف كان هناك القدوة ولم أكن أنا وحدي بل كل زملائي وقادتي وجنودي.. بل أجزم كل مواطن مصري سواء العمال في المصانع والفلاحين في الحقول والمثقفين والإعلاميين من أناروا لنا الطريق وغيرهم كثير".
حياته ونشأته:
ولد صلاح عمران في الأول من إبريل عام 1947 في قرية كوم بدر التابعة لمحافظة سوهاج لأسرة عريقة، كان جده عبد الرحمن بك عمران أول من تولى منصب عمدة القرية وكان يمتلك مساحات شاسعة من الأراضي، وكانت جدته لأبيه تركية الأصل من عائلة أغا العريقة في طهطا، وجدته لأمه من زاوية البقلى من عائلة عبد البارى بمحافظة المنوفية.. أما عائلة جده لأبيه وأمه من قبيلة الهللة بغرب طهطا، وهي تنتمي إلى قبيلة حمير العريقة باليمن..
تعلم صلاح عمران في مدارس المدينة ولم تكن هناك مدارس قد أنشئت في قريته بعد، حتى حصل على الشهادة الثانوية، وكان أخوته قد سبقوه في التعليم الجامعي، وقرر أن يلتحق بالكلية الفنية العسكرية وتخرج في الدفعة الخامسة التي تعادل دفعة 47 فى مايو ١٩٦٩ برتبة ملازم أول بسلاح المدرعات، وكان ترتيبه الثالث على الدفعة..
لما حدثت حرب يونيو 1967 كان صلاح عمران مازال طالباً في الكلية الفنية العسكرية، وكان مثل غيره لا يستوعب حجم الهزيمة، واعتقد أنه ما هي إلا أيام وسوف يستأنف القتال ونرد اليهود على أعقابهم. وكان مع زملائه يسألون المعلمين دوماً ولم يكن لدى هؤلاء المعلمين من الضباط وضباط الصف الإجابة الشافية.. ومرت الأيام في الكلية وتخرج عام 1969 وكان عاماً ثقيلاً كما يقول اللواء صلاح، فقد استشهد فيه الفريق أول عبد المنعم رياض رئيس أركان حرب القوات المسلحة، واشتدت حدة حرب الاستنزاف وكبّدت إسرائيل خسائر فادحة وقد ردت بعنف بأن أغارت على أهداف حيوية بالعمق المصري فقامت بضرب قناطر نجع حمادي وقيادة المنطقة الوسطى في منقباد، وأغارت على كتيبة الرادار بالزعفرانة.
بعد تخرجه تم توزيع الملازم أول صلاح عمران على اللواء 15 مدرع في منطقة أبو صوير بالإسماعيلية في قطاع الجيش الثاني الميداني، وكان هذا اللواء يطلق عليه "اللواء الضارب"، كان احتياطياً لقائد الجيش الثاني ومسلحاً بأحدث الدباباتT.55 الروسية الصنع تم استبدالها بعد ذلك بدبابات T.62الروسية أيضاً.. وكانت مهمة اللواء خلال حرب الاستنزاف خوض تدريبات شاقة في أرض مشابهة لأرض العمليات في سيناء بمنطقة الخطاطبة وبرقاش، استعداداً ليوم العبور العظيم، كما أوكلت للواء مهام حماية قواعد صواريخ الدفاع الجوي المجاورة له ضد عمليات إنزال معادية، وكانت توجد سرية دبابات من اللواء في جزيرة البلاح؛ وهي جزيرة وسط قناة السويس شمال مدينة الإسماعيلية للدفاع عن الجزيرة وتقديم المعاونة النيرانية لقوات المشاة هناك..
نُقل النقيب مهندس صلاح عمران إلى إحدى الوحدات بالمنطقة المركزية العسكرية، ولم يستمر بها طويلاً، فنقل إلى منطقة البحر الأحمر العسكرية في أواخر عام 1972 وكانت هذه المنطقة تتعرض للهجوم وإنزال بعض وحدات العدو لتشغل القوات المسلحة عن مهمتها الإساسية في جبهة قناة السويس، واستمرت خدمته في البحر الأحمر عدة أشهر، بعدها نقل إلى اللواء الأول مشاه ميكانيكي التابعة للفرقة السادسة مشاه ميكانيكي التي كان يقودها العميد محمد أبو الفتح محرم، وكان مكان تمركزها بدهشور، وعند تسليمه لخطاب النقل بقيادة اللواء في شهر مايو 1973، طُلب منه أن يكتب وصيته؛ لأن اللواء سوف يتحرك إلى الجبهة في منطقة درابيل بالجفرة بالقرب من السويس بنطاق الجيش الثالث الميداني، وكان يقوده اللواء عبدالمنعم واصل، للقيام بإحدى العمليات في سيناء، وتم إلغاء العملية وتم تحديد مشروع اللواء التدريبي يوم 17 أكتوبر 1973، ولكن كان العمل على خرائط تخص مهمة اللواء في سيناء في الاتجاه الساحلي الموازي لخليج السويس من منطقة الشط شرق القناة حتى رأس محمد، وفي يوم 5 أكتوبر 1973 كان الرائد مهندس صلاح عمران ضمن مجموعة استطلاع اللواء الأول من الضفة الغربية للقناة من أعلى مصاطب الدبابات لمنطقة انتظار اللواء غرب القناة ومكان كوبرى العبور ثم خطوط فتح اللواء في سيناء وخط الدفع للاشتباك وخط المهمة المباشرة، وفي يوم 6 أكتوبر وفي الساعة العاشرة والنصف تم الاجتماع قادة الوحدات والسرايا مع قائد اللواء العقيد أركان حرب صلاح زكى حسين، وهو كما يقول اللواء عمران "الإنسان العظيم والوطني حتى النخاع والذى أجله وأقدره والذى قدرني أكثر مما استحق"، وقد أخبرهم أن ساعة الصفر "س" هي ساعة 1350 وطلب منا قراءة الفاتحة على أرواح شهدائنا الذين سيسقطون في هذه الحرب، وكانت الروح المعنوية والاستعداد للشهادة في ذروتها.
تحرك الرائد مهندس صلاح عمران على رأس القوة التي يقودها في تمام الساعة 1330 أي الواحدة والنصف، وعند ووصوله إلى طريق السويس وجد دفعته وصديقه الرائد مهندس هاني حياتي ينظم مرور وحدات اللواء، وأشار إليه بعلامة النصر، وما هي إلا دقائق حتى امتلأت سماء الجبهة بأسراب طائرات القوات الجوية التي كان يقودها اللواء طيار محمد حسني مبارك وكان تطير على ارتفاع منخفض حتى كادت بطونها أن تلامس أرتال الدبابات.
تأخر عبور اللواء الأول من يوم 6 أكتوبر إلى يوم 7 أكتوبر نتيجة التأخر في عمل الكوبري في منطقة الجناين شمال السويس، وتم اندفاع اللواء على الطريق الساحلي كما هو مخطط في اتجاه رأس محمد، وتم الاستيلاء على حصن عيون موسى الشهير الذي فر منه اليهود مذعورين دون قتال حتى وصلت طلائع اللواء مشارف رأس سدر وخروجه خارج مظلة الدفاع الجوي وتعرض لغارات كثيفة من جانب العدو، ولكن نظراً لطبيعة الأرض الجبلية وكثرة الخيران التي تم احتماء الدبابات والمركبات المدرعة من نوع توباز وعمل الساتر النيراني كانت خسائر اللواء ضعيفة للغاية، وفي الليل تم إرجاع اللواء إلى منطقة مظلة الدفاع الجوي. وتم التمسك بالأرض وصد جميع الهجمات المضادة، والقيام بأعمال الإغارة الليلية والتى كانت ناجحة للغاية، وتبددت مزاعم العدو التي تقول بأنهم ملوك القتال الليلي، ولكن وجدناهم لا ملوك ولا أمراء ولا خفراء وكانت كفاءة الجنود المصريين أفضل منهم بكثير..
وفي يوم 20 أكتوبر صدرت الأوامر لعودة اللواء الأول مشاة ميكانيكي إلى الغرب للمشاركة في القتال ضد قوات العدو التي تسللت من ثغرة الدفرسوار، في منطقة جبل جنيفة وتزامنا مع اللواء 113 مشاة ميكانيكي بقيادة العقيد أ.ح ليون مسعد تواضروس، الذي يتبع الفرقة 23 مشاة ميكانيكي بقيادة العميد أ.ح أحمد عبود الزمر، وكان مهمة كل من اللواء الأول واللواء 113 مواجهة مجموعتي عمليات إسرائيلية مكونة من أربعة ألوية مدرع، ولواءي مظلات بخلاف الدعم، كانت هذه المجموعات بقيادة كل من الجنرالين أبراهام ماندلر، وكولمان.
وفي يوم 22 أكتوبر صدرت للرائد صلاح عمران الأوامر من قائد اللواء بالعودة إلى سيناء لإحضار سرية دبابات كانت متروكة هناك، وعبر القناة إلى الشاطيء، ولكن تعثر إحضار السرية لتعرض الكباري للتدمير من قبل قوات العدو، وكان نشاط العدو الجوى كثيفاً جداً، ويقول الرائد صلاح عن هذه الفترة: "ولاحظت اختلاف أسلوب العدو في القصف الجوي، حيث كان يقصف على ارتفاعات عالية جداً مع الاختلاف الكامل لنوعية الطيارين والذي ثبت مؤخراً أنهم أتوا من أمريكا وجنوب إفريقيا، وأذكر أن الملجأ الذي كنت متواجداً فيه في ضيافة كلاً من الرائد حسن الليدى، والرائد رفيق كامل تعرض لقصف مباشر بطائرتين إسرائيليتين، بقنبلتين زنة1000 رطل، وقنبلتين زنة 500 رطل، ويعرف زنة القنابل من عمق وقطر الحفرة التي أحدثتها ولا أعرف كيف نجونا من الموت، ولكن هذا يثبت فاعلية التجهيز التدريبي".
تم صدور قرار وقف إطلاق النار الساعة 1810 يوم 22 أكتوبر بعد قيام مدفعية الفرقة 19 التى كان الرائد صلاح موجوداً بنطاقها بقصف عنيف لمدة أربع ساعات ثم عاد الرائد صلاح إلى الغرب صباح يوم 23 أكتوبر معتقداً أن اليهود قد التزموا بقرار وقف إطلاق ولكنهم كعهدهم في كل العصور خونة للعهود والمواثيق، وخرقوا القرار ولم يلتزموا به.. وكانت المعارك على أشدها في منطقة اللواء الأول الذي كان مطلوباً منه إيقاف مجموعتي عمليات في ظل تفوق جوي إسرائيلي، وقد بذل رجال اللواء أقصى ما يمكن عمله، واشتركت كتيبة منه قواته في الدفاع عن السويس التي فشل العدو في احتلالها.
في يناير 1992 رقي العميد أ.ح مهندس صلاح عمران إلى رتبة اللواء ثم تقاعد وعمل بإحدى شركات المقاولات الكبرى التابعة لقطاع الأعمال العام ووصل إلى منصب رئيس قطاع أي ما يعادل وكيل وزارة، وظل بها سنتين بعد بلوغ سن المعاش وكان مثالاً للنزاهة في سنوات عمله، محافظاً على المال العام أكثر من حفاظه على المال الخاص، ثم اعتزل العمل العام بعد ذلك وتفرغ لإدارة أملاكه من الأراضي الزراعية يتابعها عن كثب وسط أهله وعائلته.
---------------------
بقلم: أبو الحسن الجمال
* كاتب ومؤرخ مصري